فتاة الريف .. الصعود نحو الأسفل !
في زيارة سريعة لريفنا الحبيب وفي أحد بيوتهِ المتواضعة كانت لي جلسة قصيرة مع إحدى الفتيات الصغيرات وأنا أسألها عن أحوالها الدراسية ؟ قالت بتهكم : تركتُ الدراسة منذ سنتين .. سألتها بتعجب : ولكن لماذا ؟!
- لأنني لا أحبها .. يكفي أني تعلمت القراءة والكتابة .
قلت لها بألم : العلم لا يعني تعلم القراءة والكتابة فقط ! ومن ثم يجب ان تواكبي فتيات عصركِ وتعرفي كل ما يدور في المجتمع من خلال كسبكِ للعلم والمعرفة .. كما ان للشهادة التي ستحصلين عليها دورها في تغيير مستقبلك نحو الأحسن .
- لا تهمني الشهادة على الإطلاق أما بخصوص العلم والمعرفة فأنا أتعرف على أمور كثيرة من خلال التلفاز .
أخذت تلك الفتاة جهاز الكونترول وصارت تتنقل من فضائية لأخرى وكأنها تتباهى أمامي بعدم حاجتها إلى أي شيء آخر ! كانت تلك الفتاة في الثالثة عشر من عمرها تقريباً ، اتجهت عيناي نحو التلفاز لأرى أين ستستقر أناملها ؟ وأخيراً قالت بفرحة غامرة وهي تستقرعلى احدى القنوات : إنها مسلسل رائع ، بل كل المسلسلات التركية رائعة .. أم ماذا تقولين ؟ قلت بابتسامة حزينة : هل تأخذين ثقافتكِ وعلومكِ من هذه المسلسلات ؟ !!! وهنا وقبل أن تجيب دخلت بقية أخواتها وكُنَّ أصغر منها عمراً ، أسرعن نحو التلفاز وتحلقت عيونهن الجميلة نحوهُ بلهفة .. عرفتُ من خلال ملابسهن أنهن كن في المدرسة ، ثم دخلت الأم وهي تسألهن : ما هي نتائجكن ؟؟ طأطأت الفتيات برؤسهن وهن يرددن : راسبات !!!
ثم مددن أياديهن الصغيرة نحوها : وهذه هي شهاداتنا .. قلت وقد أدهشني الموقف : هل فعلاً هنَّ راسبات ؟ أجابت الأم باقتضاب : نعم ..للأسف ! سألتها : وفي أي المراحل هن ؟ أجابت بخجل : الكبيرة في الثالث الابتدائي والوسطى في الثاني والصغيرة في الأول .. عدتُ لأسأل بذهول : وراسبات ؟؟؟
حينها أُسقط في يد الأم وهي تقول : لقد أتعبني مستواهن المتردي وسأقوم بإجبارهن على ترك المدرسة كأختهن الكبرى ، قالت التي في الصف الثالث : ولماذا تجبريننا ؟ سنتركها بملأ إرادتنا .. ثم عادت لتتابع المسلسل التركي وهي تردد : كم اكره المدرسة !
تكلمتُ مع الأم في محاولة مني لثنيها عن قرارها : أعطيهن فرصة أخرى لعلهن ينجحن في السنة القادمة .
قالت بأسف : إنهن يرسبن لسنتين متتاليتين يا أختاه .. فهذه السنة الثانية لكل منهن في نفس الصف ، سألتها باهتمام : ما الذي يشغلهن عن الدراسة ؟ هل تعمل بناتكِ في المزرعة ؟ ضربت على صدرها وهي تقول : لا أبداً .. اقسم لكِ إنهن لا يخرجن من البيت إلا إلى المدرسة فقط .
- اذاً ما السبب .. هل هو التلفاز ؟
وهنا أدارت المرأة بوجهها نحو ذلك الجهاز ورأت المسلسل فشهقت وهي تقول : متى بدأت ؟ لماذا لم تخبرنني يا بنات ؟ قالت إحداهن : ولكن ألم تشاهدي هذه الحلقة ليلة أمس ؟ أجابت الأم ومازالت تحملق بناظريها في ذلك المسلسل : لا لقد تملكني النعاس وأبوكن من شاهدها فقط .
حينها فقط عرفتُ السبب في رسوب جميع فتيات هذه العائلة في دراستهن ، فإذا كان الأب والأم يتسابقان مع أبنائهم وبناتهم لأخذ الثقافة من هذه المسلسلات الوضيعة فأي مستقبل ثقافي ينتظر هذه العائلة ؟ اكتب هذه الكلمات والعبرة تخنقني على هكذا عوائل كنا نتمنى أن تتثقف فعلاً لا ظاهراً فقط ، فأبناء الريف اليوم لم يعودوا كالسابق بعيدين عن تطورات العصر وثقافته وعلومه .. هكذا كنت أتصور ! لكني تفاجأت في تلك الزيارة القصيرة وما تبعها من زيارات ولبيوتات متعددة بأن تصوري ليس في محله فالثقافة التي تمنينا أن تصل إلى ريفنا الحبيب لم تكن إلا ثقافة الفضائيات والموبايل !!
لا يعني هذا اننا لن نجد عوائل اتجهت اتجاهاً صحيحاً نحو الثقافة الحقيقية .. بل بالعكس فهناك من تشكل مفخرة العوائل العربية المسلمة والملتزمة وهي تقطن ريفنا الحبيب ، ولكن تبقى نسبتها قليلة لو قارنّاها مع بقية العوائل الريفية في يومنا هذا .. وأتساءل في نهاية حديثي : أين دور المؤسسات الدينية في توعية أبناء الريف وعوائلهم ؟ فإن كان نشر الوعي في المدن والقرى الكبيرة هو أمر صعب بسبب اتساع الرقعة السكنية في هذه المناطق ، فهل نشر الوعي بين العوائل الريفية هو أمرٌ صعب ايضاً ؟؟
أين أخواتنا ( الداعيات إلى الله ) من كل هذه الويلات التي تحدث لفتياتنا المسلمات في ريفنا الحبيب ؟ فالفلاح اليوم – يا أخوتي – لم يترك الزراعة فقط ليلتحق بالوظائف العصرية وينخرط في مؤسسات الدولة كالشرطة والجيش ، بل انه ترك حتى تربية بناته للفضائيات والتطور الزائف وهو يتوقع بأنه يصعد بنفسهِ وعائلتهِ نحو القمة ، لكنه مع الأسف ليس إلا صعوداً نحو الأسفل .